Wednesday, August 22, 2007

العقَّاد، الزَّرقاوي وعرس الدَّم



العقَّاد، الزَّرقاوي وعرس الدَّم
وائل السوَّاح
21/12/2006

وائل السواح *
في الحادي عشر من هذا الشهر يكون عام قد مر على الفاجعة التي أودت بحياة المخرج السوري العالمي مصطفى العقاد ومعه سبعة وخمسون رجلا وامرأة وطفلا، معظمهم أردنيون كانوا متوجهين لحضور عرس. وكما في أفلام الرعب، العرس تحول إلى مأتم والعروس إلى أضحية، قدمت كما في غابر الأيام، إلى إله، ليس إله النيل والخير والعطاء، بل هو إله الكراهية والحقد والتعصب المقيت الأعمى.
خسارة مصطفى العقاد ليست أكبر من خسارة الشهداء السبعة والخمسين بالنسبة لذويهم. ولكن العقاد يختلف عنهم بأنه كان واحدا من أهم المعالم الثقافية العربية.
التقيت العقاد مرتين، واحدة في بيروت، والأخرى في دمشق، لدى فنان فلسطيني مقيم في سورية. وفي المرتين كان رجلا فاتنا، بغليونه وسماحة وجهه والعمق الغريب في عينيه المؤثرتين. وكان ساحرا بعمق نظرته إلى الأمور السياسية والفنية والثقافية والعلاقة بين الشرق والغرب. ولكن الأهم كان عناده العجيب وتصميمه الذي لا يهزم.
منذ شبابه الأول، وعندما كان الشباب من الكتاب يحلمون بأن يصبحوا إرنست همنغواي، والشباب من الفنانين كانوا يحلمون بأن يغدو عمر الشريف، كان مصطفى يريد أن يصير مخرجا من طراز ديفيد لين. وليحقق ذلك، لم تكن القاهرة أو بيروت تكفيانه. كان لا بد من مقصد آخر: هوليوود. وإليها شد الرحيل.
ثمة فيلم شهير عنوانه «إما هوليوود أو الموت.» مصطفى العقاد كان تجسيدا سوريا لهذا الفيلم. سافر للدراسة في الولايات المتحدة وفي جيبه مائتا دولار أعطاه إياها والده مع مصحف صغير. وهو يقول عن رحلته: "ذهبت فقيرا مادياَ لكنني غني دينياَ وتربوياَ وقومياَ، وهذا كان رأسمالي... وعندما وصلت إلى أميركا وعرفت المجتمع هناك، قدّرت قيمة الأخلاق التي ربّاني عليها والدي".
ويقول عن بيته في ولاية لوس انجلوس إن الداخل إليه يشعر انه يعيش في حلب من حيث اللغة، الدين، المأكولات، الموسيقى. وعندما يخرج من البيت ويغلق الباب يصبح أمريكياً في التفكير والطريقة العملية والمنطقية ونظام العمل وكل شيء. لم تمنعه أمريكا من ممارسة عبادته. الزرقاوي فعل.
إلى كونه فناناً مهماً، كان مصطفى أيضاً مدخنة متنقلة. يروي صديق عمره سمير عطا الله عنه أنه كان يدخن غليونه في أحد المطاعم في لوس انجليس، عندما طلبت منه سيدة أفرو-أميركية أن يطفئ غليونه، فرفض، قائلا: "إننا في بلد الحرية" فما كان منها إلا أن قامت من مقعدها إليه ووجّهت إليه لكمة قلبته هو وكرسيه قائلة له: «ما دمت تقول إن هذا بلد حرية، وإنك حرّ في التدخين فأنا حرة في إبداء الرأي على طريقتي».
جاء مصطفى العقاد إلى عمان، ليحضر عرسا مع ابنته، التي لم يكن قد رآها منذ فترة. ولكنه لم يكن يعرف أن الزرقاوي كان يكمن له، ولفكره المنفتح ولفنه العالمي، ولكل ما يرمز إليه من قيم تناقض التعصب والانغلاق والإرهاب. كان على موعد مع ابنته، ريما القادمة اللحظة من لبنان، يدفعها الشوق إلى أبيها الحاني بخطى سريع، ولم يكن يعرف أن يد الزرقاوي الملطخة بدم البشر من كل الأديان والألوان والأعراق ستكون على موعد معه. وهكذا، عندما رأى ابنته من على مبعدة، اندفع نحوها ليعانقها، فسبقه الزرقاوي. ووقعت الفتاة بين ذراعيه مضرجة بدمها.
لم يكن العقاد مناضلاً ولا مقاتلاً ولا مقاوماً. كان فناناً، شديد الخوف، كثير الوساوس. تخيل كل شيء ولكنه لم يتخيل أن تقضي ابنته بين ذراعيه. ولعل في رحيله بعدها بأيام رحمة له أكثر من بقائه حيا، يتذكر في كل ثانية صورتها وهي تنتفض بين يديه.
في موت مصطفى العقاد بعد رمزي. فعلى الأرجح، لم يكن الزرقاوي يعرف أنه سيكون بين ضحاياه. ولكن الإرهاب المتعصب الغادر، الإرهاب الذي لا يواجه وجها لوجه، ولكنه يتلطى في الزوايا، ويتسلل على الكنائس والجوامع والفنادق وصالات الأفراح، كان بالتأكيد يتقصد فكرا من مثل فكر العقاد، وفنا من مثل فنه، ومقدرة على التسامح والاندماج والعيش المشترك، وهي نقيض التعصب والانغلاق والأحادية التي يعتاش الإرهاب عليها. ومن هنا فإن القول بأن الزرقاوي كان يتصيد العقاد ليس من قبيل المبالغة. فمخرج الرسالة وعمر المختار بالنسبة إلى الزرقاوي هو بدون شك كافر يستحق القتل.
لقد كان لافتاً وإيجابياً أن تسارع معظم الحكومات العربية وحكومات الدول الإسلامية وحتى بعض التيارات الإسلامية السياسية إلى إدانة تفجيرات عمان، بيد أن ذلك لم يعد يكفي الآن.
فلطالما بارك أهل الرأي من صفوة المثقفين العرب والأحزاب السياسية القومية والإسلامية أعمال الإرهاب، من خلال صمتهم.
لم يعد التنديد الرمزي يكفي. لابد من أن تقف كافة المراجع الدينية والمدنية العربية وقفة واضحة وصريحة تدين القتل والتدمير الذي تقوم به حفنة ضالة من المتطرفين الإسلاميين باسم دين هو منهم براء. وكبداية، لا بد أن تبدأ هذه المرجعيات بإدانة واضحة لا لبس فيها ولا تأويل لعمليات القتل المجانية والجبانة في العراق التي تستهدف الرجال والنساء والأطفال، تستهدف الجنود ورجال الشرطة والصحفيين. لا بد من أن نعلن جميعا أن قتل امرئ، بدون ولاية، حرام مهما كان دينه ولونه وعرقه. عندها فقط يمكن أن يكون الرحيل المأساوي للعقاد وغيره من الشهداء، رغم الحزن الشديد، مفيداً.
* عن "كلنا شركاء"

No comments: