
"في زمني، كنا نتعلم الفرق بين الخطأ والصواب، وكانت الرشوة غير موجودة على الإطلاق، أو أنها كانت تقدم بخجل شديد وأيد متعرقة من قبل الطرفين: الراشي والمرتشي. ولم يكن الرجل لديه أكثر من عمل واحد، فقد كان مرتب واحد يكفي العائلة بأكملها.
"في طفولتي كان هنالك عشرات الجرائد والمجلات الخاصة، ولم يكن ذلك مدعاة للمباهاة من أحد. وكنت أشاهد أفلام هرقل وماشيستي في أي سينما أختارها من بين خمس عشرة دار سينما، وكانت السيدات والأوانس يتمشين مساء إلى دور السينما وحيدات، لمشاهدة أنور وجدي يقبل مديحة يسري أو كلارك غيبل يغازل أودري هيبورن."
نظر الحفيد إلى جده باستغراب شديد، وسأله:
" يا الله يا جدي، كم عمرك إذن؟"
سيكون جواب الجد صدمة، ربما ليس للطفل، ولكن للقراء جميعا. فهذا الرجل الذي ولد قبل التلفزيون واللقاح والليزر والنيسكافيه والفساد عمره فقط تسعة وخمسون عاما.
يتهمني البعض بالنوستالجيا، وأعترف أن بي حنينا دائما إلى الماضي. حنين عميق إلى زمن كان فيه جان بول سارتر وهايدغر وطه حسين هم الكتاب الذين يقرأهم البشر، وليس يوسف القرضاوي وفرانسيس فوكوياما. وكان إنريكو كاروسو وماريا كالاس وأم كلثوم هم المغنين الذين يسمعهم البشر، وليس هيفاء وهبي وشعبولا وعلي الديك. وكان تشرتشل روزفلت وشارل ديغول هم القادة الذين يسوسون العالم. وكانت لاروس والموسوعة البريطانية هما الموسوعتين المعتمدتين، وليس برامج التلفزيون و- في أحسن الأحوال - موسوعة ويكيبيديا. وكان العلماء والمختصون هم الذين يقررون الفائزين في مسابقات الغناء وملكات الجمال وعجائب الدنيا السبع، وليس الجمهور العريض الذي يصوت بواسطة ال sms، وكلما كان وضعه المادي أفضل استطاع أن يصوت أكثر.
بي حنين إلى زمن كان يجتمع فيه الخصوم السياسيون حول طاولة مقهى البرازيل، ليناقشوا شؤون الوطن، وكان السياسي يضطر على بيع أملاكه لأن مرتبه لا يكفيه للوجاهة السياسية، وكان للقاضي والمعلم والشرطي هيبة منشؤها الكفاءة والنزاهة.
بي حنين إلى زمن كان الرجل فيه يلتزم بكلمته، ولم يكن السند والكمبيالة هما الذين يلزمان التاجر، وإنما سمعته في السوق.
بي حنين إلى زمن لم يكن في سورية أكشاك صغيرة في مركز المدينة والمناطق الفقيرة، تسجل أسوأ الأغنيات وتنسخ الاسطوانات، وتوزع بالآلاف، وتؤثر سلبا على تطويع ذائقة الناس.
بي حنين لزمن ليس فيه روتانا وقناة الجزيرة والشام القابضة। بيد أنني أعلم أنه مجرد حنين لماض انتهى ولن يعود.